فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عينين} يبصر بهما.
{وَلِسَاناً} يفصح به عما في ضميره {وشفتين} يستر بهما فاه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغير ذلك والمفرد شفة وأصلها شفهة حذفت منها الهاء ويدل عليه شفيهة وشفاه وشافهت وهي مما لا يجوز جمعه بالألف والتاء وإن كان فيه تاء التأنيث على ما في (البحر).
{وهديناه النجدين} أي طريقي الخير والشر كما أخرجه الحاكم وصححه والطبراني وغيرهما عن ابن مسعود وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس وروى عن عكرمة والضحاك وآخرين وأخرجه الطبراني عن أبي أمامة مرفوعاً والنجد مشهور في الطريق المرتفع قال امرؤ القيس:
فريقان منهم جازع بطن نخلة ** وآخر منهم قاطع نجد كبكب

وسميت نجد به لارتفاعها عن انخفاض تهامة والامتنان المحدث عنه بأن هداه سبحانه وبين له تعالى شأنه ما إن سلكه نجا وما أن سلكه هلك ولا يتوقف الامتنان على سلوك طريق الخير وقد جعل الأمام هذه الآية كقوله تعالى: {إِنَّا هديناه السبيل} [الإنسان: 3] إما شاكراً وإما كفوراً ووصف سبيل الخير بالرفعة والنجدية ظاهر بخلاف سبيل الشر فإن فيه هبوطاً من ذروة الفطرة إلى حضيض الشقاوة فهو على التغليب أو على توهم المتخيلة له صعوداً ولذا استعمل الترقي في الوصول إلى كل شيء وتكميله كذا قيل وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس أنهما الثديان وروى ذلك عن ابن المسيب أي ثديي الأم لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه والارتفاع فيهما ظاهر والبطن تحتهماكالغور والعرب تقسم بثديي الأم فتقول أما ونجديها ما فعلت ونسب هذا التفسير لعلي كرم الله تعالى وجهه أيضاً والمذكور في (الدر المنثور) من رواية الفريابي وعبد بن حميد وكذا في مجمع البيان أنه كرم الله تعالى وجهه: إن أناساً يقولون أن النجدين الثديان فقال لا هما الخير والشر ولعل القائل بذلك رأى أن للفظ يحتمله مع ظهور الامتنان عليه جدًّا.
{فَلاَ اقتحم العقبة} الاقتحام الدخول بسرعة وضغط وشدة ويقال قحم في الأمر قحوماً رمى نفسه فيه من غير روية و{العقبة} الطريق الوعر في الجبل وفي البحر هي ما صعب منه وكان صعوداً والجمع عقب وعقاب وهي هنا استعارة لما فسرت به من الأعمال الشاقة المرتفعة القدر عند الله تعالى والقرينة ظاهرة وإثبات الاقتحام والمراد به الفعل والكسب ترشيح ويجوز أن يكون قد جعل فعل ما ذكر اقتحاماً وصعوداً شاقاً وذكره بعد {النجدين} جعل الاستعارة في الذروة العليا من البلاغة والمراد ذم المحدث عنه بأنه مقصدر مع ما أنعم الله تعالى به عليه من النعم العظام والأيادي الجليلة الجسام كأنه قيل فقصر ولم يشكر تلك النعم العظيمة والأيادي الجسيمة بفعل الأعمال الصالحة بل غمط النعمة وكفر بالمنعم واتبع هوى نفسه وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة} أي أي شيء أعلمك ما هي تعظيم تعظيم لشأن {العقبة} المفسرة بقوله سبحانه: {فَكُّ رقبة} إلخ وتفسيرها بذلك بناء على الادعاء والمجاز وهو مما لا شبهة في صحته وإن لم يتحد العقبة والفك حقيقة فلا حاجة إلى تقدير مضاف كما زعمه الأمام ليصح التفسير أي وما أدراك ما اقتحام العقبة {فَكُّ} إلخ وقال بعضهم يحتمل أن يراد بـ: {العقبة} نفس الشكر عبر بها عنه لصعوبته ولا يأباه {وَمَا أَدْرَاكَ} ما الشكر {فَكُّ رقبة} وهو كما ترى وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن أبي شيبة عن ابن عمر أن {العقبة} جبل زلال في جهنم وأخرج ابن جرير عن الحسن نحوه وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنها النار وفي راية عبد بن حميد عنه أنها عقبة بين الجنة والنار وعن مجاهد والضحاك والكلبي أنها الصراط وقد جاء في صفته ما جاء ولعل المراد بعقبة بين الجنة والنار هذا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي رجاء أنه قال بلغني أن {العقبة} التي ذكر الله تعالى في القرآن مطلعها سبعة آلاف سنة ومهبطها سبعة آلاف سنة وهذه الأقوال إن صحت يتعين عليها أن يراد بالاقتحام المرور والجواز بسرعة وأن يقدر المضاف أي وما أدراك ما اقتحام العقبة {فَكُّ} وجعل الفك وما عطف عليه نفس الاقتحام على سبيل المبالغة في سببيته له حتى كأنه نفسه ومآل المعنى فلا فعل ما ينجو به ويجوز بسبب العقبة الكؤد يوم القيامة وبهذا يندفع ما نقله الإمام عن الواحدي بعد نقله تفسيرها بجبل زلال في جهنم وبالصراط ونحو ذلك وهو قوله وفي هذا التفسير نظر لأن من المعلوم أن هذا الإنسان وغيره لم يقتحموا عقبة جهنم ولا جاوزوها فحمل الآية عليه يكون إيضاحاً للواضحات ثم قال ويدل عليه أنه لما قال سبحانه: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة} فحمل الآية عليه يكون إيضاحاً للواضحات ثم قال ويدل عليه أنه لما قال سبحانه: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة} فسرها جل شأنه بفك الرقبة والإطعام. انتهى.
نعم أنا لا أقول بشيء من ذلك حتى تصح فيه تفسيراً للآية رواية مرفوعة والفك تخليص شيء من شيء قال الشاعر:
فيا رب مكروب كررت وراءه ** وعان فككت الغل منه ففداني

وهو مصدر فك وكذا الفكاك بفتح الفاء كما نص عليه الفراء والمشهور أن المراد به هنا تخليص رقبة الرقيق من وصف القرقية بالاعتاق وأخرج أحمد وابن حبان وابن مردويه والبيهقي عن البراء رضي الله تعالى عنه أن اعرابياً قال يا رسول الله علمني عملاً يدخلني الجنة قال أعتق النسمة وفك الرقبة قال أو ليسا بواحد قال لا إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في عتقها الحديث وعليه يكون نفي العتق عن المحدث عنه متحققاً من باب أولى ومن الفك بهذا المعنى إعطاء المكاتب ما يصرفه في جهة فكاك نفسه وجاء في فضل الاعتاق أخبار كثيرة منها ما أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار حتى الفرج بالفرج» وهو أفضل من الصدقة عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وعند صاحبيه الصدقة أفضل والآية على ما قيل أدل على قول الإمام لمكان تقديم الفك على الإطعام وعن الشعبي تفضيل العتق أيضاً على الصدقة على ذي القرابة فضلاً عن غيره وقال الإمام في الآية وجه آخر حسن وهو أن يكون المراد أن يفك المرء رقبة نفسه بما يكلفه من العبادة التي يصير بها إلى الجنة فهي الحرية الكبرى وعليه قيل يكون ما بعد من قبيل التخصيص بعد التعميم وفيه بعد كما لا يخفى.
{أَوْ إِطْعَامٌ في يَوْمٍ ذِى مسغبة} مصدر ميمي بمعنى السغب قال أبو حيان وهو الجوع العام وقد يقال سغب الرجل إذا جاع وقال الراغب هو الجوع مع التعب وربما قيل في العطش مع التعب وفسره ابن عباس هنا بالجوع من غير قيد وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن إبراهيم أنه قال في يوم فيه الطعام عزيز وليس بتفسير بالمعنى الموضوع له.
ووصف اليوم بـ: {ذي مسغبة} نحو ما يقول النحويون في قولهم هم ناصب ذو نصب وليل نائم ذو نوم ونهار صائم ذو صوم.
{يَتِيماً ذَا مقربة} أي قرابة فهو مصدر ميمي أيضاً من قرب في النسب يقال فلان ذو قرابتي وذو مقربتي بمعنى قال الزجاج وفلان قرابتي قبيح لأن القرابة مصدر قال:
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ** وذو قرأبته في الحي مسرور

وفيه بحث وفي إطعام هذا جمع بين الصدقة والصلة وفهيما من الأجر ما فيهما وقيل إنه لا يخص القريب نسباً بل يشمل من له قرب بالجوار.
{أَوْ مِسْكِيناً ذَا متربة} أي افتقار وهو مصدر ميمي كما تقدم من ترب إذا افتقر ومعناه التصق بالتراب وأما أترب فاستغنى أي صار ذا مال كالتراث في الكثرة كما قيل أقرى وعن ابن عباس أنه فسره هنا بالذي لا يقيه من التراب شيء وفي رواية أخرى هو المطروح على ظهر الطريق قاعداً على التراب لا بيت له وهو قريب مما أخرجه ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعاً هو الذي مأواه المزابل فإن صح لا يعدل عنه وفي رواية أخرى عن ابن عباس هو الذي يخرج من بيته ثم يقلب وجهه إليه مستيقناً أنه ليس فيه إلا التراب وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنه قال في ذلك يعني بعيد التربة أي بعيداً من وطنه وهو بعيد والصفة على بعض هذه التفاسير صفة كاشفة وبعض آخر مخصصة واو على مافي البحر للتنويع وقد استشكل عدم تكرار لا هنا مع أنها دخلت على الماضي وهم قالوا يلزم تكرارها حينئذ كما في قوله تعالى: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى} [القيامة: 31] وقول الحطيئة:
وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها ** وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا

وشذ قوله:
لا هم أن الحرث بن جبلة ** جنى على أبيه ثم قتله

وكان في جاراته لا عهد له ** فأي أمر سيئ لا فعله

وأجيب بأن اللازم تكرارها لفظاً أو معنى وهي هنا مكررة معنى لأن تفسير العقبة بما فسرت به من الأمور المتعددة يلزم منه تفسير الاقتحام فيكون {فَلاَ اقتحم العقبة} [البلد: 11] في معنى فلا فك رقبة {وَلاَ مسغبة يَتِيماً} الخ.
وقد يقال في البيت نحو ذلك بأن يقال إن العموم فيه قائم مقام التكرار ويلزمه على ما قيل جواز لا جاءني زيد وعمر ولأنه في معنى لا جاءني زيد ولا جاءني عمرو ومنعه بعضهم وقال الزجاج والفراء يجوز أن يكون منه. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عينين وَلِساناً وشفتين وَهَدَيْناهُ النجدين}
هو تعقيب على موقف هذا الجهول المفتون، الذي ظن أن قدرته لا تغلب، وأن ماله لا ينفد، وأنه لا يحاسب على ما يفعل، ولا يراجع فيما يقول، وأنه عند نفسه أكبر من أن يحاسب، وأعظم من أن يراجع!! وإذا سلّم لهذا الغبىّ الجهول، أن جاهه وسلطانه من كسب يده، وأن المال الذي ينفق منه بغير حساب على شهواته وأهوائه، هو من ثمرة عمله- إذا سلّم له بهذا، فهل يجرؤ على أن يدّعى- ولو تجرد من كل حياء- أنه هو الذي أوجد وجوده، وأودع فيه هذه القوى التي يعمل بها؟ أيجرؤ على أن يقول إنه هو الذي خلق هاتين العينين اللتين ببصر بهما، أو هو الذي خلق جهاز النطق الذي ينطق به، من لسان وشفتين؟ فإذا كان لا يملك تلك القوى المودعة فيه، فهل يملك ما تحصّله له تلك القوى من جاه، ومال، وسلطان؟ إنه يستطيع- ولو جدلا وسفها- أن يقول مشيرا إلى نفسه: هذا مالى قد جمعته، وهذا جاهى وسلطانى قد أقمته ولكن لا يستطيع أبدا أن يقول ها هو ذا أنا الذي أو جدته!! {وهديناه النجدين} ما تأويله؟
قوله تعالى: {وَهَدَيْناهُ النجدين} النجد: ما ارتفع من الأرض، أشبه بالنّهد البارز على الصدر، وجمعه نجود، وبه سمى الصّقع المعروف من بلاد العرب، بنجد، لأنه عال بارز على ما حوله من الأماكن، مثل تهامة وغيرها.. والنجدان هنا، هما جانبا الخير والشر في الإنسان.. وسميا نجدين لأنهما أمران بارزان بين ما يتقلب فيه الإنسان من أمور. فالخير واضح الملامح، بيّن السّمات، وكذلك الشر، أمره ظاهر لا يخفى.. ولن يخطئ أحد التفرقة بين ما هو خير وما هو شر، كما لا يخطئ أحد التفرقة بين النور والظلام، والنهار والليل، والحلو والمر.. اللهم إلا من فسد عقله، واختل تفكيره، فيرى الأمور على غير وجهها، تماما، كمن تعطلت حاسة من حواسه، من سمع أو بصر، أو شم، أو ذوق، فلا يميز بين المسموعات أو المبصرات، أو المشمومات أو المذوقات.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم بقوله: «إن الحلال بين وإنّ الحرام بيّن.. وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس».
والإنسان السوىّ، يعرف الخير والشر، والهدى والضلال، والنافع والضار، ويهتدى إلى ذلك بنفسه، كما يتهدّى الحيوان إلى مسالكه في الحياة، وإلى ما يحفظ وجوده بين الأحياء..
ومن هنا كانت دعوة الإسلام- كما كانت دعوة الشرائع السماوية كلها- هي الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر.. والمعروف هو ما عرف الناس بفطرتهم أنه ملائم لهم، فاتجهوا إليه، وتجاوبوا معه، وأخذوا وأعطوا به..
والمنكر، ما أنكره الناس بفطرتهم، واستوحشوه، ونفروا منه، ونأوا بأنفسهم عنه.. ومن هنا أيضا كان الإجماع في الشريعة الإسلامية أصلا من أصول هذه الشريعة، يقوم إلى جانب أصليها: الكتاب والسنة.. وليس الإجماع في حقيقته إلا توارد العقول وتلاقى الفطر على أمر ليس في كتاب اللّه ولا في سنة رسوله نصّ فيه..
وهذا يعنى أن الرأى العام حكم يقضى بين الناس، وفيصل فيما لم يجدوا له حكما في الكتاب أو السنة..
وأكثر من هذا، فإن أحكام الكتاب والسنة، إنما هي موزونة بميزان الفطرة السليمة، والعقل الصحيح، أو قل إن أحكام الكتاب والسنة ضابطة لمسيرة الفطرة السليمة، والعقل الصحيح. ومن هنا لا تجد النفوس السويّة حرجا، ولا ضيقا، في التزامها حدود الشريعة والوفاء بها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (78: الحج) فمعنى قوله تعالى: {وَهَدَيْناهُ النجدين} أي عرّفناه وجهى الخير والشر، وأعطيناه الميزان الذي يزنهما به، ويضع كلّا منهما موضعه الذي هو له.. وكما يشير النجدان إلى أن كلّا من الخير والشر بالمكان البارز الذي لا يخفى وجهه ولا تخطئ الأنظار الاستدلال عليه- كذلك يشيران إلى أن الاتجاه إلى أي منهما، وأخذ الطريق إليه، هو مرتقى صعب، يحتاج إلى جهد ومعاناة! فالذى يتجه إلى الخير، ويحمل نفسه على معايشته، إنما يغالب أهواء جامحة، ويدافع شهوات معربدة.. وفى الحديث: «حفّت الجنة بالمكاره».. ولهذا كان الصبر من عدّة المؤمنين، ومن زادهم على طريق الحق والخير.. فمن لم يرزق الصبر، لم يقو على السير في طريق الهدى والإيمان..
{إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ} (2- 3: العصر)..
{وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (35: فصلت) والشرّ، وإن بدا في ظاهر الأمر أنه أخفّ محملا، وأيسر سبيلا، لأن مسيرته متجهة مع أهواء النفس، مندفعة مع تيار الشهوات- إلا أنه في واقع الأمر على خلاف الظاهر، فليس محمل الشر خفيفا، ولا طريقه سهلا معبّدا..
فما أكثر المزالق والعثرات التي يلقاها الأشرار في طريقهم، وما أكثر الآلام التي تتولد من اقتراف الآثام، وإشباع الشهوات.. وإن اللذة العارضة لشهوة من الشهوات، أو إثم من الآثام، لتعقبها دائما آلام مبرّحة، وأوجاع قاتلة، إن لم يكن ذلك في يومها، ففى غد قريب أو بعيد.. فما أكثر العلل الجسدية التي تخلّفها الآثام، وما أكثر العلل والأوجاع التي يرثها أولئك الذين يزرعون الشر، ويستكثرون منه! هذا، وللإنسان- كل إنسان، حتى أكثر الناس جرأة على الشر ومقارفة له- لحظات يصحو فيها من غفلته، ويفيق فيها من سكرته، ويتنبه من ذهوله، وعندها يجد بين يديه هذا الحصاد المشئوم، الذي تنبعث منه روائح كريهة عفنة، حتى لتكاد تخنق أنفاسه، وتزهق روحه! وكم لأهل الضلال، ومقتر في الآثام من ساعات، يحترقون فيها بنار الندم والحسرة، ويتقلبون فيها على جحيم التقريع واللوم، ولكن بعد فوات الأوان، وإفلات الفرصة.. وأىّ عزاء يعزّى به نفسه رجل كأبى نواس مثلا، حين يذهب شبابه، وتموت نوازعه وشهواته، ثم يتلفت فيجد بين يديه أشباح آثامه وفجوره، تتراقص من حوله، بوجوهها الكالحة، وأنيابها المكثرة، ومخالبها الحادة، وكأنها الحيات تطل من أجحارها، وتهجم عليه من كل جانب؟
ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم ** وأسمت سرح اللهو حيث أساموا

وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه ** فإذا عصارة كل ذاك أثام!

هكذا يلقى أبو نواس نفسه في صحوة الموت، وقد بلغت الروح الحلقوم!! وأي حسرة وأي ألم فاضت بهما نفس رجل كالحجاج، وقد قام على منبر سلطانه في العراق، يرمى الناس بالصواعق من كلماته، فتنخلع منها القلوب، وتضطرب النفوس، ويشهر سيفه بيد هذا السلطان المطلق، ويقول: «إنى لأرى رؤسا قد أينعت وحان قطافها، وإنى لصاحبها، وكأنى أنظر إلى الدماء بين العمائم وللحى.». ثم ينفذ هذا الوعيد، فيقطع رءوسا بريئة، وبريق دماء طاهرة.. ثم تختم صفحته الملطخة بالدماء، بدم «سعيد بن جبير» بقية السلف الصالح، والنبتة الكريمة الباقية من رياض التابعين؟
والذين شهدوا الحجاج وهو على فراش الموت، يعانى سكراته، وينظر نظرات الفزع والرعب إلى ماضيه الذي حضر كلّه بين يديه- الذين شهدوا الحجاج وهو في تلك الحال، فاضت نفوسهم أسّى عليه، ورحمة به، حتى أولئك الذين كانوا أشد الناس بغضا له، واستعجالا ليومه هذا! فكم يساوى سلطان الحجاج، وجبروته، وما أرضى به نفسه من هذا السلطان، وذلك الجبروت- كم يساوى كل هذا من آلام ساعة من ساعاته الأخيرة، وهو يرى حصاد هذا السلطان، وثمر هذا الجبروت؟
هذا حساب الإنسان مع نفسه، فكيفّ حسابه مع اللّه، إذا كان قد أخذ طريقا غير طريق اللّه؟.
وقوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ العقبة}
العقبة، هي الطريق الوعر في الجبل، تحف بسالكها المخاوف والمهالك..
والاقتحام، هو الإقدام من المرء على الأمر في قوة وعزم، دون مبالاة بما يعترضه من صعاب.. والمخاطب باقتحام العقبة هنا، هو هذا الإنسان الذي هداه اللّه النجدين، وعرّفه- بما أودع فيه من عقل، وما غرس فيه من فطرة- التهدّى إلى طريق الخير أو الشر، ثم لم يقتحم العقبة إلى موارد الخير، ومواقع الإحسان، وآثر أن يأخذ طريق الشر، ويتقحّم عقبته تحت غواشى ضلاله، وغمرة شهواته.. ومطوة نزواته..
وقوله تعالى: {وَما أَدْراكَ مَا العقبة} سؤال يثير العقل، ويحرك الفكر، نحو هذا المجهول الذي يسأل عنه.
وقوله تعالى: {فَكُّ رقبة أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مسغبة يَتِيماً ذا مقربة أَوْ مِسْكِيناً ذا متربة}: المسغبة: المجاعة، والمتربة: التراب، ويراد بها الفقر الشديد، كأن المتصف بها لا يملك غير التراب! هذه هي العقبة التي كانت موضوع السؤال: {وَما أَدْراكَ مَا العقبة}؟
إنها عقبة، تقوم بين يدى من يريد اجتيازها إلى مواقع الخير- عقبات:
منها: {فك رقبة} أي عتق رقبة، وفكها وإطلاقها من أسر العبودية، والرق، وتحريرها من البهيمية التي اغتالت معالم الإنسانية فيها..
إن الإنسان- مطلق الإنسان- له حرمته عند اللّه، وإن الاستخفاف بهذه الحرمة عدوان على حمى اللّه.. ولهذا كان من أعظم القربات عند اللّه سبحانه وتعالى، هو رد اعتبار هذا الإنسان، وتصحيح وجوده بين الناس..
إنه خليفة اللّه في الأرض! ومن العقبات التي يقتحمها من يأخذ طريقه إلى اللّه: {إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مسغبة يَتِيماً ذا مقربة أَوْ مِسْكِيناً ذا متربة} أي بذل الطعام في المجاعات، وفى أيام الجدب والقحط، للجياع والمحرومين.. وأولى هؤلاء الجياع بالإطعام، الأيتام الفقرأء، لضعفهم، وعجزهم عن الكسب.. وأحق الأيتام بهذا الإحسان، ذوو القربى، إذ كان للقرابة حق يجب أن يرعى، فمن قصّر في حق ذوى قرأبته، فهو مع غير هم أكثر ضنّا، وأشد تقصيرا.. والمسكين الفقير، هو أشبه باليتيم، في ضعفه، وقلة حيلته، وإطعامه- حين لا يجد الطعام- أولى من غيره! وفرق بين الفقير، والمسكين.. فقد يكون المسكين فقيرا، وقد يكون الفقير غير مسكين.. والمسكين هو الذليل، المهين.. سواء أكان فقيرا أم غير فقير، ومن هنا لم يكن في المؤمنين مسكين. إذ لا يجتمع الإيمان، وذلة المسكين ومهانته..
وعلى هذا يكون المسكين، هو الّذي، الذي يعيش في دار الإسلام، ويكون من حقه على المسلمين إذا كان فقيرا أن تسدّ مفاقره، وأن يكون له نصيب من البر والإحسان. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقرأءِ وَالْمَساكِينِ...} أما الفقير على إطلاقه، فهو من كان من المؤمنين، ولا مال معه، وهذا الفقر لن يلبسه لباس المسكنة أبدا.. وكيف، وهو العزيز بإيمانه، القوى بالثقة في ربه؟
وسميت هذه الأمور عقبة، لأن الذي يتخطاها، إنما يغالب نوازع نفسه، من الأثرة، وحب المال، وإنه ليس من السهل على الإنسان أن ينزع من نفسه الأنانية والأثرة، وحبّ المال، وإن ذلك ليحتاج إلى معاناة وجهاد ومغالبة، حتى يقهر المرء هذه القوى التي تحول بينه وبين البذل والسخاء.. اهـ.